مقدمة
من أعظم دلائل النبوَّة ما يؤتيه اللهُ لأنبياءَه -عليهم السلام- من معجزات تخرق العادات، وتعطِّل نواميس الكون وسننه، ويعجز عن فعلها سائر الناس؛ وذلك تأييدًا لهذا الذي أكرمه الله بالنبوة أو الرسالة، وتكريمًا له، وشاهدًا وبرهانًا على صدق ما جاء به من البيِّنات والهدى.
وقد أكرم الله نبيَّه بألوان متعدِّدة من المعجزات التي أجراها على يديه تأييدًا لرسالته، ودفعًا لمن شاهدها إلى التصديق بنبوَّته، وهي من الآيات الباهرة والدلالات الواضحة على صدقه r؛ وذلك لأن الله لا يُؤَيِّد الكاذبين، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44-47]. ولذا باء بالخزي والخسران وافتضح أمره مَنِ ادَّعى النبوَّة وهو كاذب، كمسيلمة الكذاب، والأسود العَنْسِيِّ، والمختار بن أبي عبيد الثقفي، وميرزا غلام أحمد القادياني، وغيرهم.
فمن أعظم الافتراءات على الله دعوى النبوة والرسالة كذبًا، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93]، وهذا القول من ربِّ العالمين يشمل جميع أصناف الذين يعارضون رسله الصادقين.
المعجزة لغة واصطلاحًا
وبادئ ذي بدء فالمعجزة لغة هي اسم فاعل من العجز الذي هو زوال القدرة عن الإتيان بالشيء من عمل أو رأي أو تدبُّر، وعرَّفها ابن حمدان في الاصطلاح بأنها "جهة التحدِّي ابتداءً بحيث لا يقدر أحد عليها، ولا على مثلها، ولا على ما يقاربها".
وهي في الاصطلاح: أمرٌ خارقٌ للعادة، مقرون بالتحدِّي، سالم عن المعارضة، يظهر على يد مدعي النبوة موافقًا لدعواه.
مسيلمة الكذاب: هو أبو ثمامة مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي: متنبئ، من المعمرين، وفى الأمثال: "أكذب من مسيلمة". ولد ونشأ باليمامة في القرية المسمَّاة اليوم بالجبيلة، بقرب العيينة بوادي حنيفة في نجد، ولما ظهر الإسلام في غربي الجزيرة، وافتتح النبي r مكة ودانت له العرب، جاءه وفد من بني حنيفة، قيل: كان مسيلمة معهم، إلاَّ أنه تخلَّف مع الرحال خارج مكة وهو شيخ هرم، فأسلم الوفد وذكروا للنبي r مكان مسيلمة، فأمر له بمثل ما أمر به لهم، وقال: "لَيْسَ بِشَرِّكُمْ مَكَانًا". ولما رجعوا إلى ديارهم كتب مسيلمة إلى النبي r: "من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعدُ؛ فإني قد أُشْرِكْتُ في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم يعتدون". فأجابه r: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُسَيْلَمَةَ الْكَذَّابِ، السَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ". وذلك في أواخر سنة 10هـ، وأكثر مسيلمة من وضع أسجاعٍ يُضَاهى بها القرآن. وقد تُوُفِّي النبي قبل القضاء على فتنته، فلما انتظم الأمر لأبي بكرانتدب له أعظم قواده (خالد بن الوليد) على رأس جيش قوي، انتهت المعركة بينهما بظفر خالد ومقتل مسيلمة سنة 12هـ. انظر: سيرة ابن هشام 3/74، والروض الأنف للسهيلي 2/340، وتاريخ الطبري 2/399، والكامل لابن الأثير 2/137-140، وفتوح البلدان للبلاذري ص94-100، والأعلام للزركلي 7/226.
الأسود العنسي: هو ذو الخمار، عيهلة بن كعب بن عوف العنسي المذحجي: متنبِّئ مشعوذ، من أهل اليمن، كان بطَّاشًا جبارًا، أسلم لما أسلمت اليمن، وارتدَّ في أيام النبي r فكان أوَّل مرتدٍّ في الإسلام، وادَّعى النبوَّة، وأرى قومه أعاجيب استهواهم بها، فاتبعته مذحج، وتغلب على نجران وصنعاء، واتسع سلطانه حتى غلب على ما بين مفازة حضرموت إلى الطائف إلى البحرين والأحساء إلى عدن، وجاءت كتب رسول الله r إلى مَن بقي على الإسلام في اليمن بالتحريض على قتله، فقتله أحدهم في خبر طويل أورده ابن الأثير، وكان مقتله قبل وفاة النبي r بشهر واحد، وكان بين ظهوره وقتله نحو من أربعة أشهر، ولكنه استطار استطارة الشرر، وتطابقت عليه اليمن ودانت له السواحل؛ حاز عثر، والشرجة، والجردة، وغلافقة، وعدن، وامتدَّ إلى الطائف. انظر: فتوح البلدان للبلاذري ص111-113، وجمهرة الأنساب ص381، والأعلام للزركلي 5/111.
هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذَّاب، قال الذهبي: "أسلم في حياة النبي r ولم نعلم له صحبة". وقال ابن حجر: "لا ينبغي أن يُروى عنه شيئًا لأنه ضالٌّ مضلٌّ، كان زعم أن جبرائيل u ينزل عليه". وكان قتلُه سنة 67هـ، ويقال: إنه الكذَّاب الذي أشار إليه النبي r بقوله: "يَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ". والحديث في صحيح مسلم. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 3/538، ولسان الميزان لابن حجر 3/8.
هو أحمد بن مرتضى بن محمد القادياني الهندي (1839- 1908م)، ويسمى ميرزا غلام أحمد بن غلام، نسبته إلى (قاديان) من قرى (بنجاب) وُلِدَ ودفن فيها، قرأ شيئًا من الأدب العربي، واشتغل بعلم الكلام، وخدم الحكومة الإنجليزيَّة أيام احتلالها للهند مدَّة عمل بها كاتبًا في المحكمة الابتدائيَّة الإنجليزية بمدينة سيالكوت، ولما تم القرن الثالث عشر الهجري نعت نفسه بمجدد المائة، ثم أعلن أنه المهدي، وزاد فادَّعى أن الله أوحى إليه: "الحمد لله الذي جعلك المسيح بن مريم، أنت شيخ المسيح الذي لا يضاع وقته، كمثلك در لا يضاع...". وآمن به جمهور من الهنود على أنه نبي تابع للشريعة الإسلاميَّة، وأنه أحمد المعنيّ بآية: "وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ" (الصف: 6)، ووضع كتبًا بالعربية والأرديَّة، منها مما تغلب عليه العربية: (حمامة البشرى إلى أهل مكة وصلحاء أم القرى)، و(ترياق القلوب)، و(حقيقة الوحي)، و(مواهب الرحمن) سنة 1903م في قاديان، جاء فيه: "إنني امرؤ يكلمني ربي، ويعلمني من لدنه، ويُحْسِن أدبي، ويوحي إليَّ رحمة منه، فأتبع ما يوحي" ص3، و"إني أنا المسيح الموعود والإمام المنتظر المعهود، وأوحي إليَّ من الله كالأنوار الساطعة" ص29، و"هذه الحكومة حرام على كل مؤمن أن يقاومها بِنِيَّة الجهاد، وما هو جهاد بل هو أقبح أقسام الفساد" ص44. ولا يزال له أتباع إلى اليوم في الهند وباكستان، وتصدَّى كثير من معاصريه للردِّ عليه وتكفيره، منهم حسين بن محسن السبعي اليماني في كتابه (الفتح الرباني)، وأنوار الله الحيدر آبادي في (إفادة الأفهام وإزالة الأوهام)، ومحمد علي الرحماني الكانبوري في (الصحيفة الرحمانية) تسعة أجزاء، وكتب أخرى، ومما كتب الدكتور محمد إقبال: "القاديانية ثورة على نبوة محمد r، ومؤامرة ضدَّ الإسلام، وديانة مستقلَّة". وقال الزركلي: "وقال لي أحد علماء الهند: كان الإنجليز أكبر أعوان القادياني على نشر دعوته لإحداث الانشقاق في وَحدة المسلمين بالهند، وصرفهم عن التفكير في مقاومة احتلالهم لبلادهم". مختصر من الأعلام 1/256.
أهمية المعجزة وأنواعها
وفي أهمية المعجزة ومدلولها يقول الإمام الجويني: "لا دليل على صدق النبي غير المعجزة، فإن قيل: هل في المقدور نصب دليل على صدق النبي غير المعجزة؟ قلنا: ذلك غير ممكن؛ فإن ما يُقَدَّرُ دليلاً على الصدق لا يخلو إمَّا أن يكون معتادًا، وإمَّا أن يكون خارقًا للعادة، فإن كان معتادًا يستوي فيه البَرُّ والفاجر، فيستحيل كونه دليلاً، وإن كان خارقًا للعادة يجوز تقدير وجوده ابتداءً من فعل الله تعالى، فإذا لم يكن بُدٌّ من تعلُّقه بالدعوى، فهو المعجزة بعينها".
على أنه ثمة فرق بين المعجزة والكرامة؛ ويتمثَّل ذلك الفرق في أن الكرامة لا يدَّعي صاحبها النبوَّة، وإنما تظهر على يده لصدقه في اتِّبَاع النبي، وما كانت الكرامة لتقع لولا اعتصام من وقعت على أيديهم بالاتباع الحقِّ للنبي r.
وهذا يُبَيِّنُ لنا أن شرط الكرامة للوليِّ يتمثَّل في صدق الاتباع للنبي r، لكن ليس من شرطه العصمة؛ فإن الولي قد يقع في المعصية، أما الأنبياء فقد عصمهم الله تعالى، والوليُّ يستحي من إظهار الكرامة، وإذا ظهرت نبَّه الناسَ إلى فاعلها الحقيقي وهو الله تعالى.
وهناك فرق أيضًا بين المعجزة والسحر؛ فالسحر أبعد شيء عن المعجزة أو الكرامة، وإن كان السحر أمرًا خارقًا للعادة إلاَّ أنه غير سالم من المعارضة بالمثل، فهو لا يخرج عن طاقة الإنس والجن والحيوان، كالطيران في الهواء مثلاً، بل هو أمر مقدور عليه؛ لأنه يترتَّب على أسباب إذا عرفها أحد وتعاطاها صنع مثلها أو أقوى منها، {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]. ولذلك خضع السحرة لسيدنا موسى u لأنهم -وهم أعرف الناس بالسحر- كانوا أكثر الناس يقينًا بحقيقة معجزته، وصدق نبوته، فما وسعهم أمام جلال المعجزة الإلهيَّة إلاَّ أن خرُّوا سُجَّدًا، وقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70].
أنواع المعجزات
إنَّ المعجزات تتعدَّد وتتنوَّع، وبصفة عامَّة تنقسم إلى قسمين: الأول المعجزات العقليَّة، وهي ما يؤكِّد علماء الأصول أنها المعجزة التي اخْتُصَّ بها سيدنا محمد r، وهي معجزة القرآن. والقسم الثاني المعجزات الحسيَّة، كمعجزات موسى u (العصا واليد)، ومعجزة عيسى u (إحياء الموتى، وإشفاء الأبرص)، وغيرها، وهذا النوع من المعجزة يبقى محصورًا عند مَن شاهدها أو عند مَن تناقل إليه الخبر بطريق متواتر يُجْزِم بعدم إمكان الشكِّ فيه.
وقد جرت سُنَّة الله تعالى كما قضت حكمته أن يجعل معجزة كل نبي مشاكلة لما يُتْقِنُ قومه ويتفوَّقون فيه، ولما كان العرب قوم بيان ولسان وبلاغة، كانت معجزة النبي r الكبرى هي: القرآن الكريم، وهي "معجزة عقليَّة أدبيَّة لا حسيَّة مادِّيَّة؛ وذلك لتكون أليق بالبشريَّة بعد أن تجاوزت مراحل طفولتها، ولتكون أليق بطبيعة الرسالة الخاتمة الخالدة؛ فالمعجزات الحسيَّة تنتهي بمجرَّد وقوعها، أما العقليَّة فتبقى".
وإضافة إلى هذه المعجزة الكبرى فإن الله U أكرم نبيَّه r بآيات كونيَّة جمة، وخوارق ومعجزات حسيَّة عديدة، ولكن لم يقصد بها التحدي، أي إقامة الحجة بها على صدق نبوته ورسالته r، بل كانت تكريمًا من الله تعالى له، أو رحمةً منه تعالى به، وتأييدًا له، وعناية به وبمن آمن معه في الشدائد؛ إذ إن هذه الخوارق لم تحْدُث استجابة لطلب الكافرين، بل رحمة وكرامة من الله لرسوله والمؤمنين.
ومن ذلك مثلاً الإسراء والمعراج، وانشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابع النبي r، ونزول الملائكة تثبيتًا ونصرة للذين آمنوا في غزوة بدر، وإنزال الأمطار لإسقائهم فيها وتطهيرهم وتثبيت أقدامهم، على حين لم يُصب المشركين من ذلك شيء وهم بالقرب منهم، وحماية الله لرسوله r وصاحبه في الغار يوم الهجرة، رغم وصول المشركين إليه، حتى لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآهما، وإشباع العدد الكثير من الطعام القليل في غزوة الأحزاب، وفي غزوة تبوك، وغير ذلك مما هو ثابت بنص القرآن الكريم.
منكرو المعجزات الحسيَّة
ومن شأن هذه المعجزات -كما أشرنا- أن تَزِيد المؤمن إيمانًا، والمكذِّب بها يزداد حيرةً وضلالاً، كما قال تعالى في المكذبين: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجرات: 14، 15].
وإذا كان عموم المؤمنين يُصدِّقون بآيات الأنبياء والمرسلين، فإن قومًا لعبت بهم الأهواء، فقدَّموا عقولهم وآراءهم على الثابت في الكتاب وفي سُنَّة خير العباد r، وزعموا أنه لا توجد معجزات حسيَّة ثابتة للنبي r، وفي هذا يقول أحدهم: "المعجزات السابقة كانت مناسبة لظروف النبي وقومه، أي كانت حسيَّة محلِّيَّة تنتهي بنهاية القوم الذين يطلبونها من الرسول، ثم يُصاحبها إهلاك القوم ومجيء رسول آخر؛ تتجدَّد معه نفس القصة إلى أن خُتِمَت النبوة بالرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام؛ ولأن الرسول بشر كجميع البشر محكوم عليه بالموت، ولأن رسالته يجب أن تبقى فلا بُدَّ أن تكون معجزته على نفس المستوى، أي معجزة عقليَّة عالميَّة مستمرَّة إلى قيام الساعة. وهكذا فعالم الخوارق والمعجزات الحسيَّة قد انتهى بإنزال القرآن كمعجزة عقليَّة يتحدَّى بها الله تعالى كل عصر بخصائصه، تحدى به العرب بالفصاحة، ويتحدى به القرن العشرين بعلمه ومكتشفاته، وفي النهاية فإن المعجزات قد انتهى عصرها بالنبي الخاتم حيث دخلت البشريَّة في عهد جديد ارتقى فيه العقل البشري".
وقد استدل هؤلاء بقول الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].
والحقيقة أنه ليس في الآية حجة على نفي المعجزات الحسيَّة، ولم يَقُلْ بذلك أحد من أهل العلم أصلاً، والناظر في كتب التفسير يعرف ذلك؛ يقول ابن جرير رحمه الله في تفسيرها: "يقول تعالى ذكره: وما مَنَعَنَا يا محمد أن نرسل بالآيات التي سألها قومك إلاَّ أنَّ مَنْ كان قبلهم من الأمم المكذِّبة سألوا ذلك مثل سؤالهم، فلما أتاهم ما سألوا عنه كذَّبوا رسلهم، فلم يُصَدِّقوا مع مجيء الآيات، فعوجلوا، فلم نُرسل إلى قومك بالآيات، لأنَّا لو أرسلنا بها إليهم فكذَّبوا بها سلكنا في تعجيل العذاب لهم مسلك الأمم قبلهم". ثم ساق بسنده إلى ابن عباس قوله: "سأل أهل مكة النبي r أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، وأن ينحِّيَ عنهم الجبال فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم؛ لعلنا نجتني منهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أُهلكوا كما أُهلك مَن قَبْلَهم. قال: بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ. فأنزل الله: "وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً".
كما قال الشوكاني في تفسيرها: "والمعنى: وما مَنَعَنَا من إرسال الآيات التي سألوها إلاَّ تكذيب الأولين، فإن أرسلناها وكُذِّب بها هؤلاء عوجلوا ولم يُمْهَلوا كما هو سُنَّة الله سبحانه في عباده... والحاصل أن المانع من إرسال الآيات التي اقترحوها هو أن الاقتراح مع التكذيب موجب للهلاك الكُلِّي وهو الاستئصال، وقد عزمنا على أن نُؤَخِّر أمر مَن بُعِثَ إليهم محمد r إلى يوم القيامة".
كما استدلَّ الذين ينفون المعجزات الحسيَّة بحديث الصحيحين عن أبي هريرة t عن النبي r قال: "مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
والحقيقة أيضًا أن هذا الاستدلال ليس في محله؛ يؤكِّد ذلك قول ابن حجر في معنى قول النبي r: "وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ": "أي إنَّ معجزتي التي تحدَّيت بها الوحيُ الذي أُنزل عليَّ وهو القرآن؛ لِمَا اشتمل عليه من الإعجاز الواضح، وليس المراد حصر معجزاته فيه، ولا أنه لم يُؤْتَ من المعجزات ما أُوتِي مَنْ تقدَّمه، بل المراد أنه المعجزة العظمى التي اخْتُصَّ بها دون غيره؛ لأن كلَّ نبي أُعْطِيَ معجزة خاصَّة به لم يُعْطَهَا بعينها غيرُه، تحدَّى بها قومه، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسِبة لحال قومه".
وإذا ما تأكَّد لنا ذلك، وأن الله U أكرم نبيَّه r بآيات ومعجزات حسيَّة؛ حُجَّة على صدق نبوَّته ورسالته r، ورحمة من الله تعالى به وتأييدًا له، وعناية به -كما أشرنا من قَبْلُ- وبمن آمن معه في الشدائد؛ فإنَّا نخوض في هذه المعجزات ونُبَيِّنُها ونُعَدِّدها، تلك التي اعتمدتْ أساسًا على خرق ما اعتاد الناس عليه وأَلِفُوه.
معجزات الرسول الحسيَّة
بعض العلماء هذه المعجزات فزادت على ألف معجزة، يقول ابن حجر: "وَذَكَرَ النَّوويُّ في مقدِّمة شرح مُسْلِم أَنَّ مُعْجِزَات النَّبِيِّ r تَزِيد على ألف ومائتين، وقال البيهقيُّ في (المدخل): بلغت ألفًا. وَقَالَ الزَّاهديُّ من الحنفيَّة: ظهر على يديه ألف معجزة. وقيل: ثلاثة آلاف. وقد اعتنى بجمعها جماعة من الأئمَّة، كأبي نُعَيْم والبيهقيِّ وغيرهما".
يقول البيهقي: "ودلائل النبوَّة كثيرة، والأخبار بظهور المعجزات ناطقة، وهي وإن كانت في آحاد أعيانها غير متواترة، ففي جنسها متواترة متظاهرة من طريق المعنى؛ لأن كل شيء منها مُشَاكِل لصاحبه في أنه أمر معجز للخواطر، ناقض للعادات".. ويقول ابن تيمية: "كان يأتيهم بالآيات الدالَّة على نبوته
كما قال ابن القيم بعد أن عدَّد معجزات موسى وعيسى عليهما السلام: "وإذا كان هذا شأن معجزات هذين الرسولين، مع بُعد العهد وتشتُّت شمل أُمَّتَيْهما في الأرض، وانقطاع معجزاتهما، فما الظنُّ بنبوة محمد r, ومعجزاته وآياته تزيد على الألف والعهد بها قريب، وناقلوها أصدقُ الخلق وأبرُّهم، ونَقْلُها ثابت بالتواتر قرنًا بعد قرن!".
فلقد أيَّد الله نبيَّه محمدًا بالمعجزات الحسيَّة الكثيرة الدالة على نبوته، ورأى مشركو مكة الكثير منها، لكنهم لم يؤمنوا ولم يُذعِنُوا للحقِّ، بل طلبوا -على سبيل العناد والاستكبار- المزيد من الآيات، وقالوا: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً} [الإسراء: 90- 93].
معجزات في الكون
يمكن عرض معجزات الرسول r الحسيَّة كما يلي:
1) معجزات في الكون:
وتشمل الآيات الكبرى التي حدثت في الكون الفسيح، وكان من ذلك ما آتاه الله U نبيَّه r من معجزة انشقاق القمر؛ وذلك ليُقِيمَ الحُجَّة على قريش.
فقد روى الشيخان وغيرهما من حديث ابن مسعود t أنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله r فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه, فقال رسول الله r: "اشْهَدُوا".
وهذا الذي حكاه الله تعالى بقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 1- 3].
قال ابن كثير بعد أن ساق روايات عدَّة لحادثة انشقاق القمر: "فهذه طرق عن هؤلاء الجماعة من الصحابة، وشهرة هذا الأمر تُغْنِي عن إسناده، مع وروده في الكتاب العزيز... والقمر في حال انشقاقه لم يُزَايِل السماء، بل انفرق باثنتين، وسارت إحداهما حتى صارت وراء جبل حراء، والأخرى من الناحية الأخرى، وصار الجبل بينهما، وكلتا الفرقتين في السماء، وأهل مكة ينظرون إلى ذلك، وظنَّ كثير من جهلتهم أن هذا شيء سُحرت به أبصارهم، فسألوا مَن قَدِمَ عليهم من المسافرين، فأخبروهم بنظير ما شاهدوه، فعلموا صحَّة ذلك وتيقَّنوه".
قال الخطابي: "انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجًا من جُمْلَةِ طِبَاعِ ما في هذا العالم المركَّب من الطبائع، فليس مما يُطْمَع في الوصول إليه بحيلة؛ فلذلك صار البرهان به أظهر".
والعجيب أنه قد صدَّق تلك المعجزة والآية الباهرة العلمُ الحديث، في حين أن القرشيين الذين عاينوها وشاهدوها لم يجدوا أمامها إلا أن يتَّهموا الرسول
ومن معجزات الرسول r الحسيَّة في الكون أيضًا معجزة الإسراء والمعراج، وقد أفردنا لها موضوعًا خاصًّا.
ومن ذلك أيضًا إنزال المطر بدعائه r!
وفي ذلك يروي أنس بن مالكٍ t أنَّ رجلاً دخل يوم الجمعة من بابٍ كان وجاه الْمِنْبَرِ ورسول اللَّه r قائمٌ يَخْطُبُ، فاستقبل رسول اللَّه r قائمًا فقال: يا رسول اللَّه، هَلَكَتِ الْمَوَاشِي وانقطعت السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا.
قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ r يَدَيْهِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا". قَالَ أَنَسُ: وَلاَ -وَاللَّهِ- مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلاَ قَزَعَةً وَلاَ شَيْئًا، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ من ورائه سحابةٌ مثل التُّرْسِ، فلمَّا توسَّطت السَّماء انتشرت ثمَّ أمطرت. قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا.
ثمَّ دَخَلَ رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول اللَّه r قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فقال: يا رسول اللَّه، هلكت الأموال، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا. قال: فرفع رسول اللَّه r يديه ثمَّ قال: "اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ، وَالْجِبَالِ، وَالآجَامِ، وَالظِّرَابِ، وَالأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ". قَالَ: فَانْقَطَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ.
يقول ابن حجر: "وفيه عَلَمٌ من أعلام النبوة في إجابة الله دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام عقبه أو معه، ابتداء في الاستسقاء وانتهاء في الاستصحاء، وامتثال السحاب أمره بمجرَّد الإشارة".
هذا، وقد حفلت كتب السُّنَّة بأحاديث كثيرة عن استجابة الله تعالى لدعاء النبي r في مواضع يصعب حصرها، وهي مثل دعائه يوم بدر بالنصر، ودعائه لابن عباس بالفقه في الدين، ودعائه لأنس بكثرة الولد وطول العمر، ودعائه على بعض من آذاه... إلخ.
معجزات في الجماد
وقد تمثَّل ذلك في استجابة الجماد لأمره r، وتكليمه إيَّاه، وشهادته برسالته، والمعهود في الجماد هو خلاف ذلك.
ومن ذلك أنه أتى النبيَّ r رجلٌ من بني عامر، فقال له رسول الله r: "أَلاَ أُرِيكَ آيَةً؟" قال: بلى. فنظر إلى نخلة، فقال العامري للنبي r: ادعُ ذلك العِذق. قال: فدعاه، فجاء ينقز. حتى قام بين يديه، فقال له رسول الله
وفي رواية أخرى أنَّ العامري قال: والله لا أكذِّبك بشيء تقوله أبدًا. ثم قال: يا آل عامر بن صعصعة، والله لا أُكَذِّبه بشيء يقوله.
فتحرُّك الشجرة من مكانها وذهابها ومجيئها لَهُوَ آية معجزة، وبرهان دامغ على صدقه ونبوَّته r.
ومثل ذلك أيضًا ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "سِرنا مع رسول الله r حتى نزلنا واديًا أفْيَح. الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: "، فذهب رسول الله
وفي ذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله: "في الحديث آيات من دلائل نبوة النبي r منها: انقلاع الشجرتين واجتماعهما، ثم افتراقهما".
وقد ثَبَّتَ الله U قلب حبيبه r في مواجهة المحن التي تعرَّض لها بمكة بآية من جنس هذه المعجزات أيضًا، فقد روى أنس t قال: "جَاءَ جِبْرِيلُ u ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ قَدْ خُضِّبَ بِالدِّمَاءِ، قَدْ ضَرَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: فَعَلَ بِي هَؤُلاَءِ وَفَعَلُوا. قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: نَعَمْ أَرِنِي. فَنَظَرَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي، قَالَ: ادْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ. فَدَعَاهَا، فَجَاءَتْ تَمْشِي حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: قُلْ لَهَا فَلْتَرْجِعْ. فَقَالَ لَهَا، فَرَجَعَتْ حَتَّى عَادَتْ إِلَى مَكَانِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: حَسْبِي".
وغير استجابة الجماد لأمره r، فقد أيَّد الله U نبيَّه محمدًا r بأن جعل الجماد يُسَبِّح للهِ بين يديه، ويشهد له بالنبوة والرسالة.
يقول ابن مسعود t: "لَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ".
ويقول أبو ذَرٍّ t: "إني لشاهد عند النبي r في حلقة وفي يده حصى فسبَّحْنَ في يده، وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فسمع تسبيحهن مَنْ في الحلقة، ثم دفعهن النبي r إلى أبي بكر، فسبَّحْنَ مع أبي بكر، سمع تسبيحهن مَنْ في الحلقة، ثم دفعهن إلى النبي r فسبَّحْنَ في يده، ثم دفعهن النبي r إلى عمر فسبَّحْنَ في يده، وسمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن النبي r إلى عثمان بن عفان فسبَّحْنَ في يده، ثم دفعهن إلينا فلم يُسَبِّحْنَ مع أحدٍ مِنَّا".
ويقارن ابن كثير بين هذه المعجزة ومعجزة أخيه نبي الله داود عليهما السلام.، فيقول: "ولا شكَّ أن صدور التسبيح من الحصى الصغار الصمِّ التي لا تجاويف فيها؛ أعجب من صدور ذلك من الجبال؛ لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنها وما شاكلَها تُرَدِّدُ صدى الأصوات العالية غالبًا، ولكن من غير تسبيح؛ فإنَّ ذلك من معجزات داود
وصدق الشاعر إذ يقول:
لئن سبـَّحتْ صمُّ الجبـال مجيبة *** لداود أو لاَنَ الحديدُ المصفَّح
فإنَّ الصخـور الصمَّ لانَتْ بكفِّه *** وإنَّ الحصى في كفِّه ليُسبِّـحُ
بل إن من هذه الجمادات التي لا تعقل ولا تنطق ما نطق بين يديه r، وقد بُدِئَ رسول الله r بآية من هذا النوع قبل نبوته، فكان الحجر يُسَلِّم عليه، يقول رسول الله r: "إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ".
ثم بعد البعثة رأى الصحابة ذلك، يقول علي t: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ r بِمَكَّةَ، فَخَرَجَ فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ شَجَرٌ وَلا جَبَلٌ إِلاَّ قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولِ اللهِ".
على أن هذه الآيات وتلك المعجزات في الجماد لم تتوقَّف عند استجابتها له r والتسبيح بين يديه وأيدي أصحابه، وكذلك السلام عليه، بل إن الله U أنطقها بالشهادة له r بالنبوة والرسالة.
وفي ذلك يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r فِي سَفَرٍ فَأَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r:"أَيْنَ تُرِيدُ؟". قَالَ: إِلَى أَهْلِي. قَالَ:"هَلْ لَكَ فِي خَيْرٍ؟". قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ:"تَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ". فَقَالَ: وَمَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَا تَقُولُ؟ قَالَ: "هَذِهِ السَّلَمَةُ". فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ r وَهِيَ بِشَاطِئِ الْوَادِي، فَأَقْبَلَتْ تَخُدُّ الأَرْضَ خَدًّا حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاسْتَشْهَدَهَا ثَلاَثًا، فَشَهِدَتْ ثَلاَثًا أَنَّهُ كَمَا قَالَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَنْبَتِهَا، وَرَجَعَ الأَعْرَابِيُّ إِلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ: إِنِ اتَّبَعُونِي أَتَيْتُكَ بِهِمْ، وَإِلاَّ رَجَعْتُ فَكُنْتُ مَعَكَ".
ولا أغرب من أن يحنَّ جذع لفراقه r!!
فمن عظيم خوارق العادات التي أوتيها النبي r حَنين الجذع التي كان يخطب عليها في يوم الجمعة، وهي قصة مشهورة شهدها الكثير من أصحاب النبي r، يرويها جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فيقول: كان النبي r يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرًا؟ قال: "إِنْ شِئْتُمْ". فجعلوا له منبرًا، فلمَّا كان يوم الجمعة خرج إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي r فضمَّها إليه، تئنّ أنين الصبي الذي يُسكَّن، قال جابر: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها.
وفي رواية أنس: "حتى ارتجّ المسجد لخواره". وفي رواية سهل: "وكثر بكاء الناس لما رأوه به". وفي رواية المطلب: "وانشق حتى جاء النبي r فوضع يده عليه فسكت". زاد غيره فقال r: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ أَلْتَزِمْهُ لَمْ يَزَلْ هَكَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"؛ تَحْزُّنًا عَلَى رَسُولِ اللهِ r، فَأَمَرَ بِهِ فَدُفِنَ تَحْتَ الْمِنْبَرِ.
يقول ابن حجر في ذلك ومثله: "إن حنين الجذع وانشقاق القمر نُقل كلٌّ منهما نقلاً مستفيضًا، يُفِيد القطع عند مَنْ يطَّلع على طرق ذلك من أئمة الحديث".
وقال الشافعي: ما أعطى اللهُ نبيًّا ما أعطى محمدًا. فقال له عمرو بن سواد: أعطى عيسى إحياء الموتى. قال: أعطى محمدًا حنينَ الجِذعِ حتى سمع صوته, فهذا أكبر من ذلك.
وقد علَّق ابن كثير فقال: "وإنما قال: فهذا أكبر منه؛ لأن الجذع ليس محلاًّ للحياة، ومع هذا حصل له شعور ووَجَدَ لمَّا تحوَّل عنه إلى المنبر، فأَنَّ وحَنَّ حنين العِشار.، حتى نزل إليه رسول الله
من معجزات داود u أنه كان يسبح الله فتجيبه الجبال الرواسي والطيور مسبحة الله تعالى معه، يقول تعالى: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء: 79). ويقول أيضًا: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (سبأ: 10).
معجزات في الحيوانات
وقد تمثَّل ذلك في أشكال عدَّة، كان منه تكليم ذراع الشاة المسمومة له r، وإخباره بأنه مسموم.
وقد وقع ذلك في غزوة خيبر، حين أهدت زينب بنت الحارث اليهوديَّة امرأة سلام بن مشكم رسول الله r شاةً مشويَّة قد سمَّتها، وكانت قد سألت: أي اللحم أحبُّ إليه؟ فقالوا: الذراع. فأكثرت من السمِّ في الذراع، فلما انتهش r من ذراعها، أخبره الذراع بأنه مسموم، فلَفِظَ الأكلة.
يقول أبو هريرة t: لمَّا فتحت خيبر أُهْدِيَتْ لرسول اللَّه r شاةٌ فيها سمٌّ، فقال رسول اللَّه r: "اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنَ الْيَهُودِ". فَجُمِعُوا لَهُ... فَقَالَ لَهُمْ: "هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟" قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: "هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟" فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: "مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟" فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّابًا نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ.
وفي سياق معجزاته r في الحيوانات، لنا أن نتأمل قصة الجمل الذي بكى واشتكى للنبي r ما يلاقيه من تعب وجوع!
فقد روى عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: أردفني رسول الله r خلفه ذات يوم فدخل حائطًا". فسكن، فقال: " لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي
وفي رواية أخرى عن يحيى بن مُرَّة من حديث طويل قال فيه: وكنت عنده - أي عند النبي r - جالسًا ذات يوم، إذ جاءه جملٌ يُخبِّب حتى ضَرَبَ بِجِرَانِهِ بين يديه ثم ذرفت عيناه، فقال: "وَيْحَكَ، انَظْرُ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ، إِنَّ لَهُ لَشَأْنًا". قال: فخرجت ألتمس صاحبه، فوجدتُه لرجل من الأنصار، فدعوته إليه، فقال: "مَا شَأْنُ جَمَلِكَ هَذَا؟" فقال: وما شأنه؟ قال: لا أدري والله ما شأنه، عملنا عليه، ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية، فائتمرنا البارحة أن ننحره ونقسِّم لحمه، قال: "فَلاَ تَفْعَلْ، هَبْهُ لِي أَوْ بِعْنِيهِ".
وفي هذه المعجزة دَلالة مهمَّة على أهمِّيَّة الرحمة بالحيوان، ومراعاة حاله من القوة والضعف والراحة والتعب.
ومثل هذا الجمل الذي بكى أمام النبي r واشتكى له، فقد سجد له بعيرٌ آخر هائج لم يقدر عليه صاحبه.
يروي ذلك أنس بن مالكٍ t فيقول: كان أهل بيتٍ من الأنصار لهم جملٌ يَسْنُونَ عَلَيْهِ، وإنَّ الجمل اسْتُصْعِبَ عليهم فمنعهم ظَهْرَهُ، وَإِنَّ الأنصار جاءوا إلى رسول الله r فقالوا: إنَّه كان لنا جملٌ نُسْنِي عليه وَإِنَّهُ اسْتُصْعِبَ علينا وَمَنَعَنَا ظَهْرَهُ، وَقَدْ عَطِشَ الزَّرْعُ وَالنَّخْلُ.
فقال رسول الله r لأصحابه: "قُومُوا". فقاموا، فدخل الحائطَ والجمل في ناحيةٍ، فمشى النَّبيُّ r نحوه، فقالت الأنصار: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّهُ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْكَلْبِ الْكَلِبِ، وَإِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ صَوْلَتَهُ.
فَقَالَ: "لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ". فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ r بِنَاصِيَتِهِ أَذَلَّ مَا كَانَتْ قَطُّ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ.
فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ بَهِيمَةٌ لا تَعْقِلُ تَسْجُدُ لَكَ، وَنَحْنُ نَعْقِلُ، فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ. فَقَالَ: "لا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ..."، الحديث.
وفي هذا السياق أيضًا، فقد غاصت رجلا فرس سُراقة في الأرض بدعائه r!!
وكان ذلك لمَّا يئس المشركون من الظَّفَر برسول الله r وصاحبه أبي بكر t يوم الهجرة، فجعلوا لمن جاء بهما جائزة تبلغ مائة ناقة، وفي ذلك يروي سراقة بن جُعْشُم (أحد المشركين يومئذ) فيقول: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ r وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلاَنًا وَفُلاَنًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا. ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ. سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِالأَزْلاَمِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالأَمَانِ فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ الأَرْضَ، وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي، فَرَكِبْتُهَا فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ، فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الأَزْلاَمَ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لا، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَعَصَيْتُ الأَزْلاَمَ تُقَرِّبُ بِي، حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ
وجاء في حديث أنس: فقال: يا نبي الله، مرني بما شئت. قال: "فَقِفْ مَكَانَكَ، لا تَتْرُكَنَّ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا". قال: فكان أول النهار جاهدًا على رسول الله r، وكان آخر النهار مَسْلَحَة له. وذكر ابن سعد أنه لمَّا رجع قال لقريش: قد عرفتم بصري بالطريق وبالأثر، وقد استبرأتُ لكم فلم أَرَ شيئًا. فرجعوا.
يقول النووي معلِّقًا: "وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله r".
معجزات في الطعام والشراب
وذلك على نحو إشباع العدد الكثير من الطعام القليل، ونبوع الماء وإفاضته من غير ما جُعل لذلك، ومن غير الطُّرُقِ المعتادة، وذلك ببركته ودعائه r.
وكان من ذلك ما رواه جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما قال: لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ r خَمَصًا شَدِيدًا، فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي، فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ r خَمَصًا شَدِيدًا. فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي، وَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r، فَقَالَتْ: لا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللَّهِ r وَبِمَنْ مَعَهُ. فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ. فَصَاحَ النَّبِيُّ r فَقَالَ: "يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا فَحَيَّ هَلاَ بِكُمْ". فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: "لاَ تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، وَلاَ تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ". فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ r يَقْدُمُ النَّاسَ، حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ. فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ. فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِينًا، فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: "ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِي، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ، وَلاَ تُنْزِلُوهَا". وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ.
وقد علَّق النووي، فقال: "حديث طعام جابر فيه أنواع من فوائد وجمل من القواعد؛ منها: الدليل الظاهر والعلم الباهر من أعلام نبوة رسول الله r، وقد تظاهرت أحاديث آحاد بمثل هذا حتى زاد مجموعها على التواتر، وحصل العلم القطعي بالمعنى الذي اشتركت فيه هذه الآحاد، وهو انخراق العادة بما أتى به r من تكثير الطعام القليل الكثرة الظاهرة".
وكان من هذا القبيل أيضًا نُبُوع الماء من بين أصابعه r وتكثيره ببركته، فيروي أنس t أيضًا أنَّ النَّبيَّ r دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ، قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. قَالَ أَنَسٌ: فَحَزَرْتُ مَنْ تَوَضَّأَ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ.
يقول القاضي عياض: هذه القصة رواها الثقات من العدد الكثير عن الجمِّ الغفير عن الكافَّة متَّصلة بالصحابة، وكان ذلك في مواطن اجتماع الكثير منهم في المحافل ومجمع العساكر، ولم يَرِدْ عَنْ أحدٍ منهم إنكارٌ على راوي ذلك، فهذا النوع ملحق بالقطعي من معجزاته.
وقال القرطبي: ولم يُسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبيِّنَا r، حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه، وقد نقل ابن عبد البرِّ عن المُزَنِيِّ أنه قال: "نَبْعُ الماءِ من بين أصابعه r أبلغُ في المعجزة من نبع الماء من الحجر؛ حيث ضربه موسى بالعصا فتفجَّرت منه المياه؛ لأن خروج الماء من الحجارة معهود، بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم".
معجزات غيبية
وهو نوع من معجزاته r الحسِّيَّة غير ما سبق، فقد ثبت عنه r الإنباء بمُغَيَّبَات كثيرة، بعضها وقعت في حياته، وبعضها بعد وفاته؛ فعن حذيفة t قال: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ r مَقَامًا مَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلاَّ حَدَّثَ بِهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلاَءِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيتُهُ فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ، كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ".
ولقد كان من هذا القبيل نعيه r النجاشي وهو في الحبشة؛ فعن أبي هريرة t أنَّ رسول الله r نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ.
يقول النووي: "وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله r؛ لإعلامه بموت النجاشي وهو في الحبشة في اليوم الذي مات فيه".
وكان منه أيضًا إخباره بفتح بلاد اليمن، وبُصرى، وفارس، وإخباره بفتح القسطنطينية، وظهور الأمن حتى تظعن المرأة من الحيرة إلى مكة لا تخاف إلاَّ الله، وأن المدينة ستغزى ويفتح خيبر على يد عليٍّ في غد يومه، وما يفتح الله على أُمَّته من الدنيا ويؤْتَوْنَ من زهرتها، وقسمتهم كنوز كسرى وقيصر، وكذلك قوله لعمَّار: "تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ". وقوله عن الحسن: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ". وغير ذلك الكثير، وإن هذا يُغْنِينَا عن الإطالة في السرد، وحَسْبُنَا ما ذكرناه.
معجزات طبية
فقد كان من معجزاته r أيضًا إبراء المرضى وذوي العاهات، ومما جاء في ذلك أنه أصيبت يوم أحد عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فردَّها r، فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما.
قال قتادة: أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r قَوْسٌ فَدَفَعَهَا إِلَيَّ يَوْمَ أُحُدٍ، فَرَمَيْتُ بِهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ r حَتَّى انْدَقَّتْ عَنْ سِنَّتِهَا، وَلَمْ أَزَلْ عَنْ مَقَامِي نَصْبَ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ r أَلْقَى السِّهَامَ بِوَجْهِي، كُلَّمَا مَالَ سَهْمٌ مِنْهَا إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ r مَيَّلْتُ رَأْسِي لأَقِيَ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ r بِلا رَمْيٍ أَرْمِيَهِ، فَكَانَ آخِرُهَا سَهْمًا بَدَرَتْ مِنْهُ حَدَقَتِي عَلَى خَدِّي، وَتَفَرَّقَ الْجَمْعُ، فَأَخَذْتُ حَدَقَتِي بِكَفِّي، فَسَعَيْتُ بِهَا فِي كَفِّي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ r فِي كَفِّي دَمَعَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنَّ قَتَادَةَ قَدْ أَوْجَهَ نَبِيَّكَ بِوَجْهِهِ، فَاجْعَلْهَا أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ، وَأَحَدَّهُمَا نَظَرًا". فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ وَأَحَدَّهُمَا نَظَرًا.
ومن هذا القبيل أيضًا: مسُّ رأس أبي زيد الأنصاري فلم يخالطه شيب، وإبراء الطِّفْلِ الذي كان لا يفيق منذ ولد، وردُّ بصر الأعمى بدعاء علَّمه إيَّاه... وغير ذلك كثير، مما يعجز القلم عن عدِّه وتسطيره.
وعلى هذا فالمعجزات الحسية لرسول الله r كثيرة وعظيمة، وقد شملت جميع نواحي الحياة، ولم تنحصر في جانب أو ناحية واحدة منها؛ لتُبَرْهِنَ أخيرًا على تكريم الله لرسوله وتأييده له، وعنايته به وبمن آمن معه في الشدائد، وأيضًا لدفع مَنْ يُشاهدها إلى التصديق بنبوَّته ورسالته .
********************
من أعظم دلائل النبوَّة ما يؤتيه اللهُ لأنبياءَه -عليهم السلام- من معجزات تخرق العادات، وتعطِّل نواميس الكون وسننه، ويعجز عن فعلها سائر الناس؛ وذلك تأييدًا لهذا الذي أكرمه الله بالنبوة أو الرسالة، وتكريمًا له، وشاهدًا وبرهانًا على صدق ما جاء به من البيِّنات والهدى.
وقد أكرم الله نبيَّه بألوان متعدِّدة من المعجزات التي أجراها على يديه تأييدًا لرسالته، ودفعًا لمن شاهدها إلى التصديق بنبوَّته، وهي من الآيات الباهرة والدلالات الواضحة على صدقه r؛ وذلك لأن الله لا يُؤَيِّد الكاذبين، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44-47]. ولذا باء بالخزي والخسران وافتضح أمره مَنِ ادَّعى النبوَّة وهو كاذب، كمسيلمة الكذاب، والأسود العَنْسِيِّ، والمختار بن أبي عبيد الثقفي، وميرزا غلام أحمد القادياني، وغيرهم.
فمن أعظم الافتراءات على الله دعوى النبوة والرسالة كذبًا، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93]، وهذا القول من ربِّ العالمين يشمل جميع أصناف الذين يعارضون رسله الصادقين.
المعجزة لغة واصطلاحًا
وبادئ ذي بدء فالمعجزة لغة هي اسم فاعل من العجز الذي هو زوال القدرة عن الإتيان بالشيء من عمل أو رأي أو تدبُّر، وعرَّفها ابن حمدان في الاصطلاح بأنها "جهة التحدِّي ابتداءً بحيث لا يقدر أحد عليها، ولا على مثلها، ولا على ما يقاربها".
وهي في الاصطلاح: أمرٌ خارقٌ للعادة، مقرون بالتحدِّي، سالم عن المعارضة، يظهر على يد مدعي النبوة موافقًا لدعواه.
مسيلمة الكذاب: هو أبو ثمامة مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي: متنبئ، من المعمرين، وفى الأمثال: "أكذب من مسيلمة". ولد ونشأ باليمامة في القرية المسمَّاة اليوم بالجبيلة، بقرب العيينة بوادي حنيفة في نجد، ولما ظهر الإسلام في غربي الجزيرة، وافتتح النبي r مكة ودانت له العرب، جاءه وفد من بني حنيفة، قيل: كان مسيلمة معهم، إلاَّ أنه تخلَّف مع الرحال خارج مكة وهو شيخ هرم، فأسلم الوفد وذكروا للنبي r مكان مسيلمة، فأمر له بمثل ما أمر به لهم، وقال: "لَيْسَ بِشَرِّكُمْ مَكَانًا". ولما رجعوا إلى ديارهم كتب مسيلمة إلى النبي r: "من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعدُ؛ فإني قد أُشْرِكْتُ في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم يعتدون". فأجابه r: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُسَيْلَمَةَ الْكَذَّابِ، السَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ". وذلك في أواخر سنة 10هـ، وأكثر مسيلمة من وضع أسجاعٍ يُضَاهى بها القرآن. وقد تُوُفِّي النبي قبل القضاء على فتنته، فلما انتظم الأمر لأبي بكرانتدب له أعظم قواده (خالد بن الوليد) على رأس جيش قوي، انتهت المعركة بينهما بظفر خالد ومقتل مسيلمة سنة 12هـ. انظر: سيرة ابن هشام 3/74، والروض الأنف للسهيلي 2/340، وتاريخ الطبري 2/399، والكامل لابن الأثير 2/137-140، وفتوح البلدان للبلاذري ص94-100، والأعلام للزركلي 7/226.
الأسود العنسي: هو ذو الخمار، عيهلة بن كعب بن عوف العنسي المذحجي: متنبِّئ مشعوذ، من أهل اليمن، كان بطَّاشًا جبارًا، أسلم لما أسلمت اليمن، وارتدَّ في أيام النبي r فكان أوَّل مرتدٍّ في الإسلام، وادَّعى النبوَّة، وأرى قومه أعاجيب استهواهم بها، فاتبعته مذحج، وتغلب على نجران وصنعاء، واتسع سلطانه حتى غلب على ما بين مفازة حضرموت إلى الطائف إلى البحرين والأحساء إلى عدن، وجاءت كتب رسول الله r إلى مَن بقي على الإسلام في اليمن بالتحريض على قتله، فقتله أحدهم في خبر طويل أورده ابن الأثير، وكان مقتله قبل وفاة النبي r بشهر واحد، وكان بين ظهوره وقتله نحو من أربعة أشهر، ولكنه استطار استطارة الشرر، وتطابقت عليه اليمن ودانت له السواحل؛ حاز عثر، والشرجة، والجردة، وغلافقة، وعدن، وامتدَّ إلى الطائف. انظر: فتوح البلدان للبلاذري ص111-113، وجمهرة الأنساب ص381، والأعلام للزركلي 5/111.
هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذَّاب، قال الذهبي: "أسلم في حياة النبي r ولم نعلم له صحبة". وقال ابن حجر: "لا ينبغي أن يُروى عنه شيئًا لأنه ضالٌّ مضلٌّ، كان زعم أن جبرائيل u ينزل عليه". وكان قتلُه سنة 67هـ، ويقال: إنه الكذَّاب الذي أشار إليه النبي r بقوله: "يَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ". والحديث في صحيح مسلم. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 3/538، ولسان الميزان لابن حجر 3/8.
هو أحمد بن مرتضى بن محمد القادياني الهندي (1839- 1908م)، ويسمى ميرزا غلام أحمد بن غلام، نسبته إلى (قاديان) من قرى (بنجاب) وُلِدَ ودفن فيها، قرأ شيئًا من الأدب العربي، واشتغل بعلم الكلام، وخدم الحكومة الإنجليزيَّة أيام احتلالها للهند مدَّة عمل بها كاتبًا في المحكمة الابتدائيَّة الإنجليزية بمدينة سيالكوت، ولما تم القرن الثالث عشر الهجري نعت نفسه بمجدد المائة، ثم أعلن أنه المهدي، وزاد فادَّعى أن الله أوحى إليه: "الحمد لله الذي جعلك المسيح بن مريم، أنت شيخ المسيح الذي لا يضاع وقته، كمثلك در لا يضاع...". وآمن به جمهور من الهنود على أنه نبي تابع للشريعة الإسلاميَّة، وأنه أحمد المعنيّ بآية: "وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ" (الصف: 6)، ووضع كتبًا بالعربية والأرديَّة، منها مما تغلب عليه العربية: (حمامة البشرى إلى أهل مكة وصلحاء أم القرى)، و(ترياق القلوب)، و(حقيقة الوحي)، و(مواهب الرحمن) سنة 1903م في قاديان، جاء فيه: "إنني امرؤ يكلمني ربي، ويعلمني من لدنه، ويُحْسِن أدبي، ويوحي إليَّ رحمة منه، فأتبع ما يوحي" ص3، و"إني أنا المسيح الموعود والإمام المنتظر المعهود، وأوحي إليَّ من الله كالأنوار الساطعة" ص29، و"هذه الحكومة حرام على كل مؤمن أن يقاومها بِنِيَّة الجهاد، وما هو جهاد بل هو أقبح أقسام الفساد" ص44. ولا يزال له أتباع إلى اليوم في الهند وباكستان، وتصدَّى كثير من معاصريه للردِّ عليه وتكفيره، منهم حسين بن محسن السبعي اليماني في كتابه (الفتح الرباني)، وأنوار الله الحيدر آبادي في (إفادة الأفهام وإزالة الأوهام)، ومحمد علي الرحماني الكانبوري في (الصحيفة الرحمانية) تسعة أجزاء، وكتب أخرى، ومما كتب الدكتور محمد إقبال: "القاديانية ثورة على نبوة محمد r، ومؤامرة ضدَّ الإسلام، وديانة مستقلَّة". وقال الزركلي: "وقال لي أحد علماء الهند: كان الإنجليز أكبر أعوان القادياني على نشر دعوته لإحداث الانشقاق في وَحدة المسلمين بالهند، وصرفهم عن التفكير في مقاومة احتلالهم لبلادهم". مختصر من الأعلام 1/256.
أهمية المعجزة وأنواعها
وفي أهمية المعجزة ومدلولها يقول الإمام الجويني: "لا دليل على صدق النبي غير المعجزة، فإن قيل: هل في المقدور نصب دليل على صدق النبي غير المعجزة؟ قلنا: ذلك غير ممكن؛ فإن ما يُقَدَّرُ دليلاً على الصدق لا يخلو إمَّا أن يكون معتادًا، وإمَّا أن يكون خارقًا للعادة، فإن كان معتادًا يستوي فيه البَرُّ والفاجر، فيستحيل كونه دليلاً، وإن كان خارقًا للعادة يجوز تقدير وجوده ابتداءً من فعل الله تعالى، فإذا لم يكن بُدٌّ من تعلُّقه بالدعوى، فهو المعجزة بعينها".
على أنه ثمة فرق بين المعجزة والكرامة؛ ويتمثَّل ذلك الفرق في أن الكرامة لا يدَّعي صاحبها النبوَّة، وإنما تظهر على يده لصدقه في اتِّبَاع النبي، وما كانت الكرامة لتقع لولا اعتصام من وقعت على أيديهم بالاتباع الحقِّ للنبي r.
وهذا يُبَيِّنُ لنا أن شرط الكرامة للوليِّ يتمثَّل في صدق الاتباع للنبي r، لكن ليس من شرطه العصمة؛ فإن الولي قد يقع في المعصية، أما الأنبياء فقد عصمهم الله تعالى، والوليُّ يستحي من إظهار الكرامة، وإذا ظهرت نبَّه الناسَ إلى فاعلها الحقيقي وهو الله تعالى.
وهناك فرق أيضًا بين المعجزة والسحر؛ فالسحر أبعد شيء عن المعجزة أو الكرامة، وإن كان السحر أمرًا خارقًا للعادة إلاَّ أنه غير سالم من المعارضة بالمثل، فهو لا يخرج عن طاقة الإنس والجن والحيوان، كالطيران في الهواء مثلاً، بل هو أمر مقدور عليه؛ لأنه يترتَّب على أسباب إذا عرفها أحد وتعاطاها صنع مثلها أو أقوى منها، {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]. ولذلك خضع السحرة لسيدنا موسى u لأنهم -وهم أعرف الناس بالسحر- كانوا أكثر الناس يقينًا بحقيقة معجزته، وصدق نبوته، فما وسعهم أمام جلال المعجزة الإلهيَّة إلاَّ أن خرُّوا سُجَّدًا، وقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70].
أنواع المعجزات
إنَّ المعجزات تتعدَّد وتتنوَّع، وبصفة عامَّة تنقسم إلى قسمين: الأول المعجزات العقليَّة، وهي ما يؤكِّد علماء الأصول أنها المعجزة التي اخْتُصَّ بها سيدنا محمد r، وهي معجزة القرآن. والقسم الثاني المعجزات الحسيَّة، كمعجزات موسى u (العصا واليد)، ومعجزة عيسى u (إحياء الموتى، وإشفاء الأبرص)، وغيرها، وهذا النوع من المعجزة يبقى محصورًا عند مَن شاهدها أو عند مَن تناقل إليه الخبر بطريق متواتر يُجْزِم بعدم إمكان الشكِّ فيه.
وقد جرت سُنَّة الله تعالى كما قضت حكمته أن يجعل معجزة كل نبي مشاكلة لما يُتْقِنُ قومه ويتفوَّقون فيه، ولما كان العرب قوم بيان ولسان وبلاغة، كانت معجزة النبي r الكبرى هي: القرآن الكريم، وهي "معجزة عقليَّة أدبيَّة لا حسيَّة مادِّيَّة؛ وذلك لتكون أليق بالبشريَّة بعد أن تجاوزت مراحل طفولتها، ولتكون أليق بطبيعة الرسالة الخاتمة الخالدة؛ فالمعجزات الحسيَّة تنتهي بمجرَّد وقوعها، أما العقليَّة فتبقى".
وإضافة إلى هذه المعجزة الكبرى فإن الله U أكرم نبيَّه r بآيات كونيَّة جمة، وخوارق ومعجزات حسيَّة عديدة، ولكن لم يقصد بها التحدي، أي إقامة الحجة بها على صدق نبوته ورسالته r، بل كانت تكريمًا من الله تعالى له، أو رحمةً منه تعالى به، وتأييدًا له، وعناية به وبمن آمن معه في الشدائد؛ إذ إن هذه الخوارق لم تحْدُث استجابة لطلب الكافرين، بل رحمة وكرامة من الله لرسوله والمؤمنين.
ومن ذلك مثلاً الإسراء والمعراج، وانشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابع النبي r، ونزول الملائكة تثبيتًا ونصرة للذين آمنوا في غزوة بدر، وإنزال الأمطار لإسقائهم فيها وتطهيرهم وتثبيت أقدامهم، على حين لم يُصب المشركين من ذلك شيء وهم بالقرب منهم، وحماية الله لرسوله r وصاحبه في الغار يوم الهجرة، رغم وصول المشركين إليه، حتى لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآهما، وإشباع العدد الكثير من الطعام القليل في غزوة الأحزاب، وفي غزوة تبوك، وغير ذلك مما هو ثابت بنص القرآن الكريم.
منكرو المعجزات الحسيَّة
ومن شأن هذه المعجزات -كما أشرنا- أن تَزِيد المؤمن إيمانًا، والمكذِّب بها يزداد حيرةً وضلالاً، كما قال تعالى في المكذبين: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجرات: 14، 15].
وإذا كان عموم المؤمنين يُصدِّقون بآيات الأنبياء والمرسلين، فإن قومًا لعبت بهم الأهواء، فقدَّموا عقولهم وآراءهم على الثابت في الكتاب وفي سُنَّة خير العباد r، وزعموا أنه لا توجد معجزات حسيَّة ثابتة للنبي r، وفي هذا يقول أحدهم: "المعجزات السابقة كانت مناسبة لظروف النبي وقومه، أي كانت حسيَّة محلِّيَّة تنتهي بنهاية القوم الذين يطلبونها من الرسول، ثم يُصاحبها إهلاك القوم ومجيء رسول آخر؛ تتجدَّد معه نفس القصة إلى أن خُتِمَت النبوة بالرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام؛ ولأن الرسول بشر كجميع البشر محكوم عليه بالموت، ولأن رسالته يجب أن تبقى فلا بُدَّ أن تكون معجزته على نفس المستوى، أي معجزة عقليَّة عالميَّة مستمرَّة إلى قيام الساعة. وهكذا فعالم الخوارق والمعجزات الحسيَّة قد انتهى بإنزال القرآن كمعجزة عقليَّة يتحدَّى بها الله تعالى كل عصر بخصائصه، تحدى به العرب بالفصاحة، ويتحدى به القرن العشرين بعلمه ومكتشفاته، وفي النهاية فإن المعجزات قد انتهى عصرها بالنبي الخاتم حيث دخلت البشريَّة في عهد جديد ارتقى فيه العقل البشري".
وقد استدل هؤلاء بقول الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].
والحقيقة أنه ليس في الآية حجة على نفي المعجزات الحسيَّة، ولم يَقُلْ بذلك أحد من أهل العلم أصلاً، والناظر في كتب التفسير يعرف ذلك؛ يقول ابن جرير رحمه الله في تفسيرها: "يقول تعالى ذكره: وما مَنَعَنَا يا محمد أن نرسل بالآيات التي سألها قومك إلاَّ أنَّ مَنْ كان قبلهم من الأمم المكذِّبة سألوا ذلك مثل سؤالهم، فلما أتاهم ما سألوا عنه كذَّبوا رسلهم، فلم يُصَدِّقوا مع مجيء الآيات، فعوجلوا، فلم نُرسل إلى قومك بالآيات، لأنَّا لو أرسلنا بها إليهم فكذَّبوا بها سلكنا في تعجيل العذاب لهم مسلك الأمم قبلهم". ثم ساق بسنده إلى ابن عباس قوله: "سأل أهل مكة النبي r أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، وأن ينحِّيَ عنهم الجبال فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم؛ لعلنا نجتني منهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أُهلكوا كما أُهلك مَن قَبْلَهم. قال: بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ. فأنزل الله: "وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً".
كما قال الشوكاني في تفسيرها: "والمعنى: وما مَنَعَنَا من إرسال الآيات التي سألوها إلاَّ تكذيب الأولين، فإن أرسلناها وكُذِّب بها هؤلاء عوجلوا ولم يُمْهَلوا كما هو سُنَّة الله سبحانه في عباده... والحاصل أن المانع من إرسال الآيات التي اقترحوها هو أن الاقتراح مع التكذيب موجب للهلاك الكُلِّي وهو الاستئصال، وقد عزمنا على أن نُؤَخِّر أمر مَن بُعِثَ إليهم محمد r إلى يوم القيامة".
كما استدلَّ الذين ينفون المعجزات الحسيَّة بحديث الصحيحين عن أبي هريرة t عن النبي r قال: "مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
والحقيقة أيضًا أن هذا الاستدلال ليس في محله؛ يؤكِّد ذلك قول ابن حجر في معنى قول النبي r: "وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ": "أي إنَّ معجزتي التي تحدَّيت بها الوحيُ الذي أُنزل عليَّ وهو القرآن؛ لِمَا اشتمل عليه من الإعجاز الواضح، وليس المراد حصر معجزاته فيه، ولا أنه لم يُؤْتَ من المعجزات ما أُوتِي مَنْ تقدَّمه، بل المراد أنه المعجزة العظمى التي اخْتُصَّ بها دون غيره؛ لأن كلَّ نبي أُعْطِيَ معجزة خاصَّة به لم يُعْطَهَا بعينها غيرُه، تحدَّى بها قومه، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسِبة لحال قومه".
وإذا ما تأكَّد لنا ذلك، وأن الله U أكرم نبيَّه r بآيات ومعجزات حسيَّة؛ حُجَّة على صدق نبوَّته ورسالته r، ورحمة من الله تعالى به وتأييدًا له، وعناية به -كما أشرنا من قَبْلُ- وبمن آمن معه في الشدائد؛ فإنَّا نخوض في هذه المعجزات ونُبَيِّنُها ونُعَدِّدها، تلك التي اعتمدتْ أساسًا على خرق ما اعتاد الناس عليه وأَلِفُوه.
معجزات الرسول الحسيَّة
بعض العلماء هذه المعجزات فزادت على ألف معجزة، يقول ابن حجر: "وَذَكَرَ النَّوويُّ في مقدِّمة شرح مُسْلِم أَنَّ مُعْجِزَات النَّبِيِّ r تَزِيد على ألف ومائتين، وقال البيهقيُّ في (المدخل): بلغت ألفًا. وَقَالَ الزَّاهديُّ من الحنفيَّة: ظهر على يديه ألف معجزة. وقيل: ثلاثة آلاف. وقد اعتنى بجمعها جماعة من الأئمَّة، كأبي نُعَيْم والبيهقيِّ وغيرهما".
يقول البيهقي: "ودلائل النبوَّة كثيرة، والأخبار بظهور المعجزات ناطقة، وهي وإن كانت في آحاد أعيانها غير متواترة، ففي جنسها متواترة متظاهرة من طريق المعنى؛ لأن كل شيء منها مُشَاكِل لصاحبه في أنه أمر معجز للخواطر، ناقض للعادات".. ويقول ابن تيمية: "كان يأتيهم بالآيات الدالَّة على نبوته
كما قال ابن القيم بعد أن عدَّد معجزات موسى وعيسى عليهما السلام: "وإذا كان هذا شأن معجزات هذين الرسولين، مع بُعد العهد وتشتُّت شمل أُمَّتَيْهما في الأرض، وانقطاع معجزاتهما، فما الظنُّ بنبوة محمد r, ومعجزاته وآياته تزيد على الألف والعهد بها قريب، وناقلوها أصدقُ الخلق وأبرُّهم، ونَقْلُها ثابت بالتواتر قرنًا بعد قرن!".
فلقد أيَّد الله نبيَّه محمدًا بالمعجزات الحسيَّة الكثيرة الدالة على نبوته، ورأى مشركو مكة الكثير منها، لكنهم لم يؤمنوا ولم يُذعِنُوا للحقِّ، بل طلبوا -على سبيل العناد والاستكبار- المزيد من الآيات، وقالوا: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً} [الإسراء: 90- 93].
معجزات في الكون
يمكن عرض معجزات الرسول r الحسيَّة كما يلي:
1) معجزات في الكون:
وتشمل الآيات الكبرى التي حدثت في الكون الفسيح، وكان من ذلك ما آتاه الله U نبيَّه r من معجزة انشقاق القمر؛ وذلك ليُقِيمَ الحُجَّة على قريش.
فقد روى الشيخان وغيرهما من حديث ابن مسعود t أنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله r فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه, فقال رسول الله r: "اشْهَدُوا".
وهذا الذي حكاه الله تعالى بقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 1- 3].
قال ابن كثير بعد أن ساق روايات عدَّة لحادثة انشقاق القمر: "فهذه طرق عن هؤلاء الجماعة من الصحابة، وشهرة هذا الأمر تُغْنِي عن إسناده، مع وروده في الكتاب العزيز... والقمر في حال انشقاقه لم يُزَايِل السماء، بل انفرق باثنتين، وسارت إحداهما حتى صارت وراء جبل حراء، والأخرى من الناحية الأخرى، وصار الجبل بينهما، وكلتا الفرقتين في السماء، وأهل مكة ينظرون إلى ذلك، وظنَّ كثير من جهلتهم أن هذا شيء سُحرت به أبصارهم، فسألوا مَن قَدِمَ عليهم من المسافرين، فأخبروهم بنظير ما شاهدوه، فعلموا صحَّة ذلك وتيقَّنوه".
قال الخطابي: "انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجًا من جُمْلَةِ طِبَاعِ ما في هذا العالم المركَّب من الطبائع، فليس مما يُطْمَع في الوصول إليه بحيلة؛ فلذلك صار البرهان به أظهر".
والعجيب أنه قد صدَّق تلك المعجزة والآية الباهرة العلمُ الحديث، في حين أن القرشيين الذين عاينوها وشاهدوها لم يجدوا أمامها إلا أن يتَّهموا الرسول
ومن معجزات الرسول r الحسيَّة في الكون أيضًا معجزة الإسراء والمعراج، وقد أفردنا لها موضوعًا خاصًّا.
ومن ذلك أيضًا إنزال المطر بدعائه r!
وفي ذلك يروي أنس بن مالكٍ t أنَّ رجلاً دخل يوم الجمعة من بابٍ كان وجاه الْمِنْبَرِ ورسول اللَّه r قائمٌ يَخْطُبُ، فاستقبل رسول اللَّه r قائمًا فقال: يا رسول اللَّه، هَلَكَتِ الْمَوَاشِي وانقطعت السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا.
قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ r يَدَيْهِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا". قَالَ أَنَسُ: وَلاَ -وَاللَّهِ- مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلاَ قَزَعَةً وَلاَ شَيْئًا، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ من ورائه سحابةٌ مثل التُّرْسِ، فلمَّا توسَّطت السَّماء انتشرت ثمَّ أمطرت. قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا.
ثمَّ دَخَلَ رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول اللَّه r قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فقال: يا رسول اللَّه، هلكت الأموال، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا. قال: فرفع رسول اللَّه r يديه ثمَّ قال: "اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ، وَالْجِبَالِ، وَالآجَامِ، وَالظِّرَابِ، وَالأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ". قَالَ: فَانْقَطَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ.
يقول ابن حجر: "وفيه عَلَمٌ من أعلام النبوة في إجابة الله دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام عقبه أو معه، ابتداء في الاستسقاء وانتهاء في الاستصحاء، وامتثال السحاب أمره بمجرَّد الإشارة".
هذا، وقد حفلت كتب السُّنَّة بأحاديث كثيرة عن استجابة الله تعالى لدعاء النبي r في مواضع يصعب حصرها، وهي مثل دعائه يوم بدر بالنصر، ودعائه لابن عباس بالفقه في الدين، ودعائه لأنس بكثرة الولد وطول العمر، ودعائه على بعض من آذاه... إلخ.
معجزات في الجماد
وقد تمثَّل ذلك في استجابة الجماد لأمره r، وتكليمه إيَّاه، وشهادته برسالته، والمعهود في الجماد هو خلاف ذلك.
ومن ذلك أنه أتى النبيَّ r رجلٌ من بني عامر، فقال له رسول الله r: "أَلاَ أُرِيكَ آيَةً؟" قال: بلى. فنظر إلى نخلة، فقال العامري للنبي r: ادعُ ذلك العِذق. قال: فدعاه، فجاء ينقز. حتى قام بين يديه، فقال له رسول الله
وفي رواية أخرى أنَّ العامري قال: والله لا أكذِّبك بشيء تقوله أبدًا. ثم قال: يا آل عامر بن صعصعة، والله لا أُكَذِّبه بشيء يقوله.
فتحرُّك الشجرة من مكانها وذهابها ومجيئها لَهُوَ آية معجزة، وبرهان دامغ على صدقه ونبوَّته r.
ومثل ذلك أيضًا ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "سِرنا مع رسول الله r حتى نزلنا واديًا أفْيَح. الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: "، فذهب رسول الله
وفي ذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله: "في الحديث آيات من دلائل نبوة النبي r منها: انقلاع الشجرتين واجتماعهما، ثم افتراقهما".
وقد ثَبَّتَ الله U قلب حبيبه r في مواجهة المحن التي تعرَّض لها بمكة بآية من جنس هذه المعجزات أيضًا، فقد روى أنس t قال: "جَاءَ جِبْرِيلُ u ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ قَدْ خُضِّبَ بِالدِّمَاءِ، قَدْ ضَرَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: فَعَلَ بِي هَؤُلاَءِ وَفَعَلُوا. قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: نَعَمْ أَرِنِي. فَنَظَرَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي، قَالَ: ادْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ. فَدَعَاهَا، فَجَاءَتْ تَمْشِي حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: قُلْ لَهَا فَلْتَرْجِعْ. فَقَالَ لَهَا، فَرَجَعَتْ حَتَّى عَادَتْ إِلَى مَكَانِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: حَسْبِي".
وغير استجابة الجماد لأمره r، فقد أيَّد الله U نبيَّه محمدًا r بأن جعل الجماد يُسَبِّح للهِ بين يديه، ويشهد له بالنبوة والرسالة.
يقول ابن مسعود t: "لَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ".
ويقول أبو ذَرٍّ t: "إني لشاهد عند النبي r في حلقة وفي يده حصى فسبَّحْنَ في يده، وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فسمع تسبيحهن مَنْ في الحلقة، ثم دفعهن النبي r إلى أبي بكر، فسبَّحْنَ مع أبي بكر، سمع تسبيحهن مَنْ في الحلقة، ثم دفعهن إلى النبي r فسبَّحْنَ في يده، ثم دفعهن النبي r إلى عمر فسبَّحْنَ في يده، وسمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن النبي r إلى عثمان بن عفان فسبَّحْنَ في يده، ثم دفعهن إلينا فلم يُسَبِّحْنَ مع أحدٍ مِنَّا".
ويقارن ابن كثير بين هذه المعجزة ومعجزة أخيه نبي الله داود عليهما السلام.، فيقول: "ولا شكَّ أن صدور التسبيح من الحصى الصغار الصمِّ التي لا تجاويف فيها؛ أعجب من صدور ذلك من الجبال؛ لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنها وما شاكلَها تُرَدِّدُ صدى الأصوات العالية غالبًا، ولكن من غير تسبيح؛ فإنَّ ذلك من معجزات داود
وصدق الشاعر إذ يقول:
لئن سبـَّحتْ صمُّ الجبـال مجيبة *** لداود أو لاَنَ الحديدُ المصفَّح
فإنَّ الصخـور الصمَّ لانَتْ بكفِّه *** وإنَّ الحصى في كفِّه ليُسبِّـحُ
بل إن من هذه الجمادات التي لا تعقل ولا تنطق ما نطق بين يديه r، وقد بُدِئَ رسول الله r بآية من هذا النوع قبل نبوته، فكان الحجر يُسَلِّم عليه، يقول رسول الله r: "إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ".
ثم بعد البعثة رأى الصحابة ذلك، يقول علي t: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ r بِمَكَّةَ، فَخَرَجَ فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ شَجَرٌ وَلا جَبَلٌ إِلاَّ قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولِ اللهِ".
على أن هذه الآيات وتلك المعجزات في الجماد لم تتوقَّف عند استجابتها له r والتسبيح بين يديه وأيدي أصحابه، وكذلك السلام عليه، بل إن الله U أنطقها بالشهادة له r بالنبوة والرسالة.
وفي ذلك يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r فِي سَفَرٍ فَأَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r:"أَيْنَ تُرِيدُ؟". قَالَ: إِلَى أَهْلِي. قَالَ:"هَلْ لَكَ فِي خَيْرٍ؟". قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ:"تَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ". فَقَالَ: وَمَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَا تَقُولُ؟ قَالَ: "هَذِهِ السَّلَمَةُ". فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ r وَهِيَ بِشَاطِئِ الْوَادِي، فَأَقْبَلَتْ تَخُدُّ الأَرْضَ خَدًّا حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاسْتَشْهَدَهَا ثَلاَثًا، فَشَهِدَتْ ثَلاَثًا أَنَّهُ كَمَا قَالَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَنْبَتِهَا، وَرَجَعَ الأَعْرَابِيُّ إِلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ: إِنِ اتَّبَعُونِي أَتَيْتُكَ بِهِمْ، وَإِلاَّ رَجَعْتُ فَكُنْتُ مَعَكَ".
ولا أغرب من أن يحنَّ جذع لفراقه r!!
فمن عظيم خوارق العادات التي أوتيها النبي r حَنين الجذع التي كان يخطب عليها في يوم الجمعة، وهي قصة مشهورة شهدها الكثير من أصحاب النبي r، يرويها جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فيقول: كان النبي r يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرًا؟ قال: "إِنْ شِئْتُمْ". فجعلوا له منبرًا، فلمَّا كان يوم الجمعة خرج إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي r فضمَّها إليه، تئنّ أنين الصبي الذي يُسكَّن، قال جابر: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها.
وفي رواية أنس: "حتى ارتجّ المسجد لخواره". وفي رواية سهل: "وكثر بكاء الناس لما رأوه به". وفي رواية المطلب: "وانشق حتى جاء النبي r فوضع يده عليه فسكت". زاد غيره فقال r: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ أَلْتَزِمْهُ لَمْ يَزَلْ هَكَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"؛ تَحْزُّنًا عَلَى رَسُولِ اللهِ r، فَأَمَرَ بِهِ فَدُفِنَ تَحْتَ الْمِنْبَرِ.
يقول ابن حجر في ذلك ومثله: "إن حنين الجذع وانشقاق القمر نُقل كلٌّ منهما نقلاً مستفيضًا، يُفِيد القطع عند مَنْ يطَّلع على طرق ذلك من أئمة الحديث".
وقال الشافعي: ما أعطى اللهُ نبيًّا ما أعطى محمدًا. فقال له عمرو بن سواد: أعطى عيسى إحياء الموتى. قال: أعطى محمدًا حنينَ الجِذعِ حتى سمع صوته, فهذا أكبر من ذلك.
وقد علَّق ابن كثير فقال: "وإنما قال: فهذا أكبر منه؛ لأن الجذع ليس محلاًّ للحياة، ومع هذا حصل له شعور ووَجَدَ لمَّا تحوَّل عنه إلى المنبر، فأَنَّ وحَنَّ حنين العِشار.، حتى نزل إليه رسول الله
من معجزات داود u أنه كان يسبح الله فتجيبه الجبال الرواسي والطيور مسبحة الله تعالى معه، يقول تعالى: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء: 79). ويقول أيضًا: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (سبأ: 10).
معجزات في الحيوانات
وقد تمثَّل ذلك في أشكال عدَّة، كان منه تكليم ذراع الشاة المسمومة له r، وإخباره بأنه مسموم.
وقد وقع ذلك في غزوة خيبر، حين أهدت زينب بنت الحارث اليهوديَّة امرأة سلام بن مشكم رسول الله r شاةً مشويَّة قد سمَّتها، وكانت قد سألت: أي اللحم أحبُّ إليه؟ فقالوا: الذراع. فأكثرت من السمِّ في الذراع، فلما انتهش r من ذراعها، أخبره الذراع بأنه مسموم، فلَفِظَ الأكلة.
يقول أبو هريرة t: لمَّا فتحت خيبر أُهْدِيَتْ لرسول اللَّه r شاةٌ فيها سمٌّ، فقال رسول اللَّه r: "اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنَ الْيَهُودِ". فَجُمِعُوا لَهُ... فَقَالَ لَهُمْ: "هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟" قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: "هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟" فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: "مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟" فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّابًا نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ.
وفي سياق معجزاته r في الحيوانات، لنا أن نتأمل قصة الجمل الذي بكى واشتكى للنبي r ما يلاقيه من تعب وجوع!
فقد روى عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: أردفني رسول الله r خلفه ذات يوم فدخل حائطًا". فسكن، فقال: " لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي
وفي رواية أخرى عن يحيى بن مُرَّة من حديث طويل قال فيه: وكنت عنده - أي عند النبي r - جالسًا ذات يوم، إذ جاءه جملٌ يُخبِّب حتى ضَرَبَ بِجِرَانِهِ بين يديه ثم ذرفت عيناه، فقال: "وَيْحَكَ، انَظْرُ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ، إِنَّ لَهُ لَشَأْنًا". قال: فخرجت ألتمس صاحبه، فوجدتُه لرجل من الأنصار، فدعوته إليه، فقال: "مَا شَأْنُ جَمَلِكَ هَذَا؟" فقال: وما شأنه؟ قال: لا أدري والله ما شأنه، عملنا عليه، ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية، فائتمرنا البارحة أن ننحره ونقسِّم لحمه، قال: "فَلاَ تَفْعَلْ، هَبْهُ لِي أَوْ بِعْنِيهِ".
وفي هذه المعجزة دَلالة مهمَّة على أهمِّيَّة الرحمة بالحيوان، ومراعاة حاله من القوة والضعف والراحة والتعب.
ومثل هذا الجمل الذي بكى أمام النبي r واشتكى له، فقد سجد له بعيرٌ آخر هائج لم يقدر عليه صاحبه.
يروي ذلك أنس بن مالكٍ t فيقول: كان أهل بيتٍ من الأنصار لهم جملٌ يَسْنُونَ عَلَيْهِ، وإنَّ الجمل اسْتُصْعِبَ عليهم فمنعهم ظَهْرَهُ، وَإِنَّ الأنصار جاءوا إلى رسول الله r فقالوا: إنَّه كان لنا جملٌ نُسْنِي عليه وَإِنَّهُ اسْتُصْعِبَ علينا وَمَنَعَنَا ظَهْرَهُ، وَقَدْ عَطِشَ الزَّرْعُ وَالنَّخْلُ.
فقال رسول الله r لأصحابه: "قُومُوا". فقاموا، فدخل الحائطَ والجمل في ناحيةٍ، فمشى النَّبيُّ r نحوه، فقالت الأنصار: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّهُ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْكَلْبِ الْكَلِبِ، وَإِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ صَوْلَتَهُ.
فَقَالَ: "لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ". فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ r بِنَاصِيَتِهِ أَذَلَّ مَا كَانَتْ قَطُّ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ.
فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ بَهِيمَةٌ لا تَعْقِلُ تَسْجُدُ لَكَ، وَنَحْنُ نَعْقِلُ، فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ. فَقَالَ: "لا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ..."، الحديث.
وفي هذا السياق أيضًا، فقد غاصت رجلا فرس سُراقة في الأرض بدعائه r!!
وكان ذلك لمَّا يئس المشركون من الظَّفَر برسول الله r وصاحبه أبي بكر t يوم الهجرة، فجعلوا لمن جاء بهما جائزة تبلغ مائة ناقة، وفي ذلك يروي سراقة بن جُعْشُم (أحد المشركين يومئذ) فيقول: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ r وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلاَنًا وَفُلاَنًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا. ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ. سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِالأَزْلاَمِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالأَمَانِ فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ الأَرْضَ، وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي، فَرَكِبْتُهَا فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ، فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الأَزْلاَمَ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لا، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَعَصَيْتُ الأَزْلاَمَ تُقَرِّبُ بِي، حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ
وجاء في حديث أنس: فقال: يا نبي الله، مرني بما شئت. قال: "فَقِفْ مَكَانَكَ، لا تَتْرُكَنَّ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا". قال: فكان أول النهار جاهدًا على رسول الله r، وكان آخر النهار مَسْلَحَة له. وذكر ابن سعد أنه لمَّا رجع قال لقريش: قد عرفتم بصري بالطريق وبالأثر، وقد استبرأتُ لكم فلم أَرَ شيئًا. فرجعوا.
يقول النووي معلِّقًا: "وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله r".
معجزات في الطعام والشراب
وذلك على نحو إشباع العدد الكثير من الطعام القليل، ونبوع الماء وإفاضته من غير ما جُعل لذلك، ومن غير الطُّرُقِ المعتادة، وذلك ببركته ودعائه r.
وكان من ذلك ما رواه جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما قال: لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ r خَمَصًا شَدِيدًا، فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي، فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ r خَمَصًا شَدِيدًا. فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي، وَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r، فَقَالَتْ: لا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللَّهِ r وَبِمَنْ مَعَهُ. فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ. فَصَاحَ النَّبِيُّ r فَقَالَ: "يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا فَحَيَّ هَلاَ بِكُمْ". فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: "لاَ تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، وَلاَ تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ". فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ r يَقْدُمُ النَّاسَ، حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ. فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ. فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِينًا، فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: "ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِي، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ، وَلاَ تُنْزِلُوهَا". وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ.
وقد علَّق النووي، فقال: "حديث طعام جابر فيه أنواع من فوائد وجمل من القواعد؛ منها: الدليل الظاهر والعلم الباهر من أعلام نبوة رسول الله r، وقد تظاهرت أحاديث آحاد بمثل هذا حتى زاد مجموعها على التواتر، وحصل العلم القطعي بالمعنى الذي اشتركت فيه هذه الآحاد، وهو انخراق العادة بما أتى به r من تكثير الطعام القليل الكثرة الظاهرة".
وكان من هذا القبيل أيضًا نُبُوع الماء من بين أصابعه r وتكثيره ببركته، فيروي أنس t أيضًا أنَّ النَّبيَّ r دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ، قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. قَالَ أَنَسٌ: فَحَزَرْتُ مَنْ تَوَضَّأَ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ.
يقول القاضي عياض: هذه القصة رواها الثقات من العدد الكثير عن الجمِّ الغفير عن الكافَّة متَّصلة بالصحابة، وكان ذلك في مواطن اجتماع الكثير منهم في المحافل ومجمع العساكر، ولم يَرِدْ عَنْ أحدٍ منهم إنكارٌ على راوي ذلك، فهذا النوع ملحق بالقطعي من معجزاته.
وقال القرطبي: ولم يُسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبيِّنَا r، حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه، وقد نقل ابن عبد البرِّ عن المُزَنِيِّ أنه قال: "نَبْعُ الماءِ من بين أصابعه r أبلغُ في المعجزة من نبع الماء من الحجر؛ حيث ضربه موسى بالعصا فتفجَّرت منه المياه؛ لأن خروج الماء من الحجارة معهود، بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم".
معجزات غيبية
وهو نوع من معجزاته r الحسِّيَّة غير ما سبق، فقد ثبت عنه r الإنباء بمُغَيَّبَات كثيرة، بعضها وقعت في حياته، وبعضها بعد وفاته؛ فعن حذيفة t قال: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ r مَقَامًا مَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلاَّ حَدَّثَ بِهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلاَءِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيتُهُ فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ، كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ".
ولقد كان من هذا القبيل نعيه r النجاشي وهو في الحبشة؛ فعن أبي هريرة t أنَّ رسول الله r نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ.
يقول النووي: "وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله r؛ لإعلامه بموت النجاشي وهو في الحبشة في اليوم الذي مات فيه".
وكان منه أيضًا إخباره بفتح بلاد اليمن، وبُصرى، وفارس، وإخباره بفتح القسطنطينية، وظهور الأمن حتى تظعن المرأة من الحيرة إلى مكة لا تخاف إلاَّ الله، وأن المدينة ستغزى ويفتح خيبر على يد عليٍّ في غد يومه، وما يفتح الله على أُمَّته من الدنيا ويؤْتَوْنَ من زهرتها، وقسمتهم كنوز كسرى وقيصر، وكذلك قوله لعمَّار: "تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ". وقوله عن الحسن: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ". وغير ذلك الكثير، وإن هذا يُغْنِينَا عن الإطالة في السرد، وحَسْبُنَا ما ذكرناه.
معجزات طبية
فقد كان من معجزاته r أيضًا إبراء المرضى وذوي العاهات، ومما جاء في ذلك أنه أصيبت يوم أحد عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فردَّها r، فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما.
قال قتادة: أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r قَوْسٌ فَدَفَعَهَا إِلَيَّ يَوْمَ أُحُدٍ، فَرَمَيْتُ بِهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ r حَتَّى انْدَقَّتْ عَنْ سِنَّتِهَا، وَلَمْ أَزَلْ عَنْ مَقَامِي نَصْبَ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ r أَلْقَى السِّهَامَ بِوَجْهِي، كُلَّمَا مَالَ سَهْمٌ مِنْهَا إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ r مَيَّلْتُ رَأْسِي لأَقِيَ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ r بِلا رَمْيٍ أَرْمِيَهِ، فَكَانَ آخِرُهَا سَهْمًا بَدَرَتْ مِنْهُ حَدَقَتِي عَلَى خَدِّي، وَتَفَرَّقَ الْجَمْعُ، فَأَخَذْتُ حَدَقَتِي بِكَفِّي، فَسَعَيْتُ بِهَا فِي كَفِّي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ r فِي كَفِّي دَمَعَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنَّ قَتَادَةَ قَدْ أَوْجَهَ نَبِيَّكَ بِوَجْهِهِ، فَاجْعَلْهَا أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ، وَأَحَدَّهُمَا نَظَرًا". فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ وَأَحَدَّهُمَا نَظَرًا.
ومن هذا القبيل أيضًا: مسُّ رأس أبي زيد الأنصاري فلم يخالطه شيب، وإبراء الطِّفْلِ الذي كان لا يفيق منذ ولد، وردُّ بصر الأعمى بدعاء علَّمه إيَّاه... وغير ذلك كثير، مما يعجز القلم عن عدِّه وتسطيره.
وعلى هذا فالمعجزات الحسية لرسول الله r كثيرة وعظيمة، وقد شملت جميع نواحي الحياة، ولم تنحصر في جانب أو ناحية واحدة منها؛ لتُبَرْهِنَ أخيرًا على تكريم الله لرسوله وتأييده له، وعنايته به وبمن آمن معه في الشدائد، وأيضًا لدفع مَنْ يُشاهدها إلى التصديق بنبوَّته ورسالته .
********************
الأحد يونيو 09, 2013 12:48 am من طرف علي صدور
» هرمون الحب" يبعد الخجل
الخميس يناير 10, 2013 3:21 am من طرف د/عبدالله الناصر
» مبروك فتح المنتدى من جديد
الأربعاء يناير 09, 2013 5:22 am من طرف عبدوعمار عربية
» ترحيب بسلسلة ضخمة من الأعضاء الجدد بالإسم.
الخميس ديسمبر 22, 2011 1:34 am من طرف عبدوعمار عربية
» هل تقبلوني
الأربعاء ديسمبر 21, 2011 11:52 pm من طرف عبدوعمار عربية
» [مكتبة] كتب PDF للقراءة والتحميل ( متجدده )
الأربعاء ديسمبر 21, 2011 11:33 pm من طرف عبدوعمار عربية
» نجيل صناعى
الخميس ديسمبر 08, 2011 10:31 pm من طرف floramarket
» كلمات منسيه
الثلاثاء نوفمبر 29, 2011 6:08 pm من طرف الحالم
» الى احمد محمد عربيه
الثلاثاء نوفمبر 29, 2011 5:33 pm من طرف الحالم
» إلى صفحة النسيان
الثلاثاء نوفمبر 29, 2011 4:43 pm من طرف الحالم